حكمـــة الهـدهـد
دعا الهدهد طيور الغابة منذ الصباح الباكر إلى اجتماع طارئ،
وبدا وكأنّ أمراً خطيراً قد وقع، أو هو على وشك الوقوع... فمثل هذه الدعوات لا
تحدث إلاّ في حالات نادره.
سارعت الطيور تمسح عن عيونها آثار النوم، ومضت في طريقها نحو
الساحة الكبيرة، محاولة أن تخمّن سبب هذه الدعوة المفاجئة، وعندما اكتمل الحضور،
انبرى الهدهد يتكلّم:
- أنتم تعلمون أيّها الأعزّاء أنّ هذه الغابة هي موطننا وموطن
آبائنا وأجدادنا، وستكون لأولادنا وأحفادنا من بعدنا.. لكنّ الأمور بدأت تسوء منذ
أن استطاعت بندقيّة الصياد الوصول إلى هنا، فأصبحت تشكّل خطراً على وجودنا.
- كيف؟.. قل لنا..
تساءل العصفور الصغير.
- في كلّ يوم يتجوّل الصيادون في الغابة متربصين، ولعلّكم لا
حظتم مثلي كيف أخذ عددنا يتناقص، خصوصاً تلك الأنواع الهامّة لهم.
مثل ماذا؟
تساءل الببغاء
- مثل الكنار والهزار والكروان ذات الأصوات الرائعة..
ومثل الحمام والدجاج والبط والإوز والشحرور والسمّان ذات اللحم
المفيد، والبيض المغذي، ومثلك أيّها الببغاء... فأنت أفضل تسلية لهم في البيوت،
نظراً لحركاتك الجميلة وتقليدك لأصواتهم.
وقف الطاووس مختالاً، فارداً ريشه الملوّن.. الأحمر، والأصفر،
والأخضر، والأسود..
قال:
- لابد وأنّك نسيتني أيّها الهدهد، فلم يَردْ اسمي على لسانك،
مع أنني أجمل الطيور التي يحبّ الإنسان الحصول عليها، ليزيّن بها حدائقه.
- لا لم أنسك، وكنتُ على وشك أن أذكرك... فشكلك من أجمل
الأشكال.. ولكنْ حذار من الغرور.
قال الحجل بدهاء:
- معك حق فيما قلته أيّها الهدهد.. حذار من الغرور. نظر
الطاووس نحو الحجل بغضب شديد، اتجّه إليه وهو يؤنّبه:
- إنّك لا تقلّ خبثاً عن الثعلب الماكر، ولذا لن أعيرك أيّ
اهتمام.
حاول الحجل أنْ يردَّ له الإهانة، لكنّ الهدهد هدّأ من حاله
قائلاً له:
- دعونا الآن من خلافاتكم... فأنتم إخوة ويجب أن لا تنشغلوا عن
المشكلة الكبيرة التي تواجهنا جميعاً.
قال الشحرور:
- أيها الصديق معك حق.. لقد لامست كبد الحقيقة.. قل لنا ماذا
نفعل؟
رفع الهدهد وجهه، فاهتزّت ريشاته المغروسة في رأسه... قال:
- لقد دعوتكم لنتبادل الرأي في هذا الموضوع.. فليذهب كلّ منكم
إلى عشّه الآن، ويأتني غداً في مثل هذا الوقت بالتحديد، وقد حمل إليّ حلاً نستطيع
به حماية أنفسنا من بنادق الصيادين.
أجمــــل الهدايــــا
أقامت مدرسة (الأمل) حفلاً فنّياً جميلاً بمناسبة عيد الأمّ،
افتتحته المديرة بكلمة ترحيبيّة قالت فيها:
[أبنائي وبناتي الأعزّاء.. في الحادي والعشرين من شهر آذار من
كلّ عام، نحتفل بعيد الأم. وأنتم تعرفون قيمة الأمّ ودورها في تربية الأجيال،
وفضلها الكبير على النشئ، فهي التي تمسك العالم بيمينها، وتهزّ السرير بيسارها،
وهي من يضحّي بسعادته من أجل أن يُسعد أبناؤها ويعيشوا حياة كريمة...]
حين انتهت المديرة صفّق لها التلاميذ.. صاروا ينشدون ويغنّون
ويرقصون مبتهجين بهذا اليوم الجميل.]
عندما عادت (ميسون) إلى المنزل حدّثت أمها عن الحفل الجميل،
بعد أن قدّمت لها هديّة قائلة:
- كل عام وأنتِ بخير يا أمّي.
- كل عام وأنتِ بخير ياابنتي.
أجابتها الأم، ثم طلبت منها أن تساعدها في إعداد طعام الغداء
ريثما يعود أبوها من العمل.
تلكّأت ميسون قائلاً:
- مهلاً يا أمي.. أريد أن ألعب قليلاً.
في المساء.. نادت الأم على ميسون فلم تلتفت. كرّرت النداء،
فتصنّعت عدم السمع، قائلة في نفسها:
- إنّ أُمّي تريد تكليفي بعمل من أعمال المنزل، ولذا لن
أجيب."
جاءت الأمّ إلى ابنتها... وقفت قبالتها قائلة:
- عند الظهيرة طلبت منك مساعدتي فرفضت لأنّك كنت تلعبين...
والآن أناديكِ فلا تردّين، إن محبة الأم بطاعتها، وعدم مخالفة أوامرها. وهذه هي
أجمل الهدايا التي تقدّم إليها...
nnn
لماذا هربت الحقيبة
أمضى مازن عطلة صيفيّة ممتعة، فزار البحر برفقة أبويه وأخويه
مستمتعاً بالسباحة، وذهب إلى الحدائق والبساتين يلاحق الفراشات والعصافير. أمّا
كرته المطاطيّة، فكانت رفيقته إلى الساحات والأندية، وكلّ الأمكنة التي يلعب فيها مع رفاقه وأصدقائه
الذين يهوون كرة القدم. فهو يحبُّ الرياضة أكثر من أيّة هواية أخرى... لذلك فقد
طلب من والده أن يشتري له عند قدوم العام الدراسي حقيبة مدرسيّة عليها رسوم
الرياضيين الذين يراهم في المباريات الرياضية العربيّة والعالميّة.
ذهب مازن وأبوه إلى السوق، وبدءا يفتّشان عن الحقيبة المطلوبة.
في الدكّان الأول لم يجداها.. في الدّكان الثاني لم يجداها... وكذلك في بقية
الحوانيت والمجمعات.. فمازن كان يريد حقيبة ذات ألوان زاهية، ومواصفات معينة..
وأخيراً، وبعد جهد جهيد، وبعد أن مضى نصف النهار في البحث التقى بضالّته المنشودة،
ورأى حقيبته عند بائع جوّال.
- إنّها هي.. هي من افتشّ عنها.
صاح مازن والفرحة ترقص فوق وجهه، متابعاً كلامه:
- سأتباهى بها على كلّ زملائي في المدرسة.
- المهم أن تحافظ عليها، وعلى جميع أشيائك الأخرى.
- لابأس.. لا بأس.
اشترى الأب لابنه كلّ ما يلزمه من حاجيات مدرسيّة.. كتب،
دفاتر، أقلام تلوين، قلم حبر، قلم رصاص، ممحاة، مبراة، ولم يعد ينقصه شيء أبداً
فرحت الحقيبة بأصحابها الجدد.. قالت لهم:
- سنبقى أصدقاء طوال العام. ونمضي معاً أياماً جميلة.
- إن شاء اللَّه.. إن شاء اللَّه.
أجاب قلم الرصاص، ولم يكن يدري عن مصيره المنتظر شيئاً على
الإطلاق.. فلم يمض اليوم الأوّل على افتتاح المدرسة، حتى كان مازن قد استهلك قلمه
تماماً، من جراء بريه الدائم له.
بعد عدة أيام، وبينما التلاميذ يرسمون على دفاترهم شكلاً
معيّناً طلبت المعلمة تنفيذه، جلس مازن في مقعده واجماً، شارداً.
سألت المعلمة:
- لماذا لاترسم يا مازن؟..
- لأنني لا أملك دفتر رسم.. لقد مزّقه أخي الصغير.
في درس الإملاء ارتبك مازن وبكى، لأنه أضاع ممحاته، ولم يستطع
أن يصحّح الكلمات التي أخطأ بكتابتها.
مسطرة مازن كُسرت، ولم يعد بمقدوره أن يحدّد الأشكال الهندسية،
أو يرسم خطوطاً مستقيمة.. وكذلك المبراة، فتّش عنها كثيراً بلا جدوى.. حتّى
الدفاتر اختفت، ثم لحقت بها مجموعة الكتب.
حزنت الحقيبة الزاهية ذات الصور والرسوم لفقدان أحبّتها الذين
راحوا من بين يديها واحداً بعد الآخر.
أخذت تندب وتنوح:
- أين أنت أيّتها الأقلام الملّونة؟. فكم أسعدتني ألوانك
الصفراء والخضراء والحمراء. أين أنتَ يا دفتر الرسم الجميل؟.. فكم تباهيت بصحبتك.
أين أنتَ ياكتاب القراءة؟، فكم راقت لي مواضيعك القيّمة، وقصصك الممتعة، ودروسك
ذات الفائدة.
أين أنتم يا أصدقائي.. إنني غريبة بدونكم، أعاني الحزن
والوحدة.. ليس هذا فقط، وإنما هناك شعور بالخوف يتملّكني.
ذات يوم اتّخذت الحقيبة قراراً مهماً، توصّلت إليه بعد تفكير
طويل.. فقد صمّمت على الهروب قبل أن يغدو مصيرها كمصير الكتب، والدفاتر، وبقية
الحاجيات التي أهملها مازن، ولم يحافظ عليها.
nnn
الطمّاع
تدلّت أغصان شجرة الكرز خارج سياج البستان. رآها رجل يمر من
هناك كلّ يوم قاصداً مكان عمله، فوقف يتأمّل، ويتمنّى لو يستطيع أن يقطف منها.
لمحه صاحب البستان، فاقترب منه قائلاً:
- كُلْ ما تشاء أيّهاالرجل، فأنا قد سمحت للعابرين بقطف ما
يتدلّى خارج السور.
سُرّ الرجل بموقف البستاني، وصار كلّ صباح يقف عند الشجرة،
ويأكل منها.. إلى أن جاء يوم خاطب فيه نفسه:
- لماذا لا أحمل لزوجتي وأولادي شيئاً من هذه الثمار.. فكم
حدّثتهم عنها، وكمْ تمنّوا أن آتيهم بها.. إنّهم يحبّون الكرز كثيراً.
قفز الرجل عن السور، وصعد إلى أعلى الشجرة، وقطف سلّة صغيرة.
في يوم لاحق فعل فعلته ذاتها، وقطف سلة أكبر... وتكررت محاولاته دون أن يدري صاحب
البستان بأمره.
ذات مرة، وبعد أن ملأ صندوقاً كبيراً من الثمار اليانعة
الناضجة، وهمّ بمغادرة البستان، قافزاً من فوق السور، فاجأه كلب الحراسة بهجوم
مباغت، وبدأ يمزق له ثيابه، ويعضّه في مختلف أنحاء جسمه.
nnn
عيد ميلاد
فكّر النبع الصغير أن يحتفل بعيد ميلاده الأول، فقد مضى عام
على ولادته، وكان ذلك منذ صيف فائت، حيث دفعت به الأرض إلى الوجود، بعد أن خزّنت
الأمطار في جوفها طيلة الشتاء.. وعندما آن الأوان قرّرت أن تخرجه إلى النور عذباً
رقراقاً، يروي العطش، ويسقي السهول الواسعة.
دعا النبع إلى الإحتفال أغلب أصدقائه.. الفراشة. العصفور.
النحلة. الوردة. الطفل الصغير. فرح الجميع بدعوة النبع، وسعدوا بذلك اللقاء الحميم.
وبعد أن شرب كلّ منهم قطرة ماء، قررّوا أن يقدّموا الهدايا
لصديقهم.
رقصت الفراشة:
"إليك يا صديقي ألواني اللطيفة التي أخذتها من ألوان
الأرض."
زقزق العصفور:
" سأغني أغنيتي التي علّمتني إيّاها الأرض"
حامت النحلة:
"وز.. وز.. أعطيك نقطة عسل منحتها لي براعم الأرض."
أمالت الوردة رأسها:
"أما أنا.. فأزين صدرك بوريقات ناعمة أهدتني إيّاها أمي
الأرض."
فرح الطفل صديق النبع بذلك الإحتفال، وفكر مليّاً بالهديّة
التي سيقدّمها. وبعد قليل، أتى بريشة وألوان وورقة بيضاء، وراح يرسم..
رسم النبع، والفراشة، والعصفور، والنحلة والوردة، وكذلك الأرض
المحيطة. كما رسم نفسه، والفلاح الذي يزرع بالقرب منهم.. وكم كانت جميلة تلك
اللوحة!.. وكم كانت بديعة وزاهية!..
حيث بدت وكأنّها حقيقة، عُلِّقت على شجرة الجوز المنتصبة هناك،
ليراها الجميع في ذهابهم ورجوعهم.
كان النبع بمنتهى السعادة، وهو يعيش فرحته بعيد ميلاده الأول.
شكر أصدقاءه على حضورهم، وعلى هداياهم، ثم تابع مسيره كي يهب حبّه للأرض، صاحبة
الفضل عليه، وعلى الجميع.
nnn
الثعلب البخيل
كان الثعلب يذهب كل ليلة إلى كرم من كروم القرية، ويقطف ما
يحلو له من العناقيد الحمراء والصفراء والسوداء، ذات المذاق اللذيذ، ثم يأتي بها
إلى بيته فيضعها في حفرة قد هيّأها لتخبئة أشيائه الخاصّة.
وبعد أن ينتهي من مهمته تلك، يتجه إلى جاره الثعلب العجوز،
فيقضي الليل بزيارته، وسماع حكاياته وقصصه المسلّية. ذات يوم... مرض العجوز، فوصف
له الطبيب دواء خاصاً قائلاً له:
- عليك بأكل العنب.. إنّه الدواء الشافي لك.
طلب الثعلب المريض من جاره أن يقطف له عنقوداً من الكرم
المجاور:
إن العنب دوائي، ولا يشفيني إلاّه.. فماذا لو تكّرمت عليّ بشيء
منه.
ارتبك الثعلب، حاول التهرب من تلبية رغبة الجار، متذرّعاً بحجج
غير مقنعة:
- إن ناطور الكرم شديد الحراسة، وعينه لا تغفل عن داليات
العنب.. فهل تريدني أن أخاطر بحياتي من أجل عنقود؟
ذات يوم حدث للثعلب البخيل ما حدث لسواه. لقد داهمه مرض شديد
ألزمه الفراش، ولم يعد باستطاعته الحركة.. وعندما زاره الطبيب، فحصه بدقة، ثم قال:
- دواؤك الشافي هو العنب.
ابتسم الثعلب رغم مرضه، حدّث نفسه:
- الأمر سهل بالنسبة لي.. العنب كثير، وحفرتي ممتلئة بكميات
كبيرة منه.
وعندما نزع الغطاء عن الحفرة ليأخذ عنقوداً ممّا خبّأه، عقدت
الدهشة لسانه، واستولى عليه ذهول.. لقد فوجئ بأن العنب قد فسد بأكمله.
nnn
ما صنعه الحداد
خرجت الحروف الهجائيّة في مظاهرة ضد حرف "الألف"،
تهتف بكرهها له، وبرغبتها في نفيه وإبعاده.
وقف حرف "الألف" حزيناً مما سمع. جاء إلى اشقّائه
يستفسر:
- لماذا يا إخوتي
تقفون منّي هذا الموقف؟.. هل آذيتكم؟..
هل أزعجتكم؟..
قالت الجيم:
- نحن لا نحبك.
قال الواو:
- ولا نريدك.
تساءل "الألف" باستغراب شديد:
- لماذا؟!!..
- لأنك تختلف عنّا.. فأنت مرفوع الرأس، مستقيم الظهر. أمّا
نحن.. فيا حسرتنا!.. انظر إلى أشكالنا الملتوية.
- وما ذنبي أنا؟!.. ما ذنبي؟!
ردّد "الألف" وهو يمضي مطرقاً، كسير النفس.
بعد ذهابه، جلست الحروف تفكّر فيما تستطيع أن تفعل، إلى أن
توصّلت لحلّ مناسب جعلها تقفز فرحاً.. فقد اتفقت فيما بينها على الذهاب إلى
الحدّاد "مسعود"، ليقوّمها، ويسوّيها، ويصلح من حالها بالمطرقة
والسندان، فتصبح مستقيمة كحرف "الألف" تماماً.
"واللَّه فكرة جيدة"
قفز الجميع..
وافق الحدّاد على اقتراح الحروف، وسُرَّ أيما سرور لأنَّه
سيجني من وراء عمله هذا مبلغاً لا بأس به من المال قال:
- أنتم سبعة وعشرون حرفاً -عدا الألف- قسّموا أنفسكم إلى ست
مجموعات.. صباح كل يوم تأتيني مجموعة. ما رأيكم؟
-موافقون.
بعد أن أخذ "مسعود" الموافقة من أفواه الحروف،
واتّفق معها على الأجر، بدأ العمل، يوم السبت ذهبت إليه الباء، والتاء، والثاء،
والجيم، والحاء، والخاء،
يوم الأحد ذهبت الدال، والذال، والراء، والزاي.
أما الإثنين فكان من نصيب السين والشين والصاد والضاد.
الطاء والظاء والعين والغين بقوا إلى الثلاثاء.
نهار الأربعاء خصص للفاء، والقاف، والكاف، واللام.
الخميس، وهو نهاية الأسبوع.. زارته بقيّة الحروف، الميم،
والنون، والياء.
تغيّرت أشكال الحروف، صارت كشكل الألف الذي حزن لحالها، وتألّم
للتغيير الجذري الذي آلت إليه.
- وكيف ستميّزون بعضكم؟ وما هي أسماؤكم الجديدة؟
سأل "الألف" الأحرف التي صارت تشبهه.
حين ذهب تلاميذ المدارس إلى بيوتهم يريدون تحضير الدروس، لم
يستطيعوا أن يقرؤوا، أو يكتبوا شيئاً، إذا لم تكن أمامهم أيّة حروف سوى حرف واحد،
لا يستطيعون أن يصيغوا بواسطته كلمة.
المعلّمون والمعلّمات وقفوا مكتوفي الأيدي عاجزين عن إعطاء
المعلومات المقرّرة.
الأدباء والكتاب أيضاً كانت حالهم كحال الذي منع عنه الطعام
والشراب.
بعد حين من الزمن، ملّت الحروف وضعها.. فقدت أسماءها وأشكالها،
ولم يعد الحرف يعرف أخاه أو يميزه.
وعندما يتصادم به أثناء سيره، يقول له:
- من أنتَ؟ ما اسمكَ؟
فلا يعرف هذا الآخر بماذا يجيب.
الحدّاد "مسعود" تأذّى من الوضع مثلما تأذّى جميع
الناس، فقد نسي ابنه القراءة والكتابة بعد أن أغلقت مدرسته بابها، كباقي المدارس.
حالة من الندم تملّكته على ما اقترفت يداه.
خاطب نفسه:
"لو كنت أعرف نتيجة صنيعي لما قمت به ولو قدّموا لي كنوز
الدنيا كلّها."
وظلّ الحدّاد الليل بحاله يفكّر بما عساه يقوم به ليعوّض ما
فات. رأى ابنه حيرته، فقال له:
- ما رأيك ياوالدي لو اقترحت على الحروف أن تعيد لها شكلها
بمطرقتك وسندانك.
- وهل تقبل؟
- جرب.. ولنر..
اتّجه مسعود إلى الحروف، فرآها تتخبّط بعضها ببعض، تتشاجر،
وتختلف، ولا تتفّق على شيء. وحده حرف الألف الحقيقي كان يقف عن بعد، وينظر إلى
الأحوال التي توصل إليها إخواته بسبب جهلهم، وعدم إدراكهم.
قال له:
- أيها الألف العاقل.. تعال معي نحاول إقناع إخوتك بالرجوع إلى
أشكالهم الأولى، وأنا على استعداد للقيام بهذا العمل دون أجر أو تعويض.
فرح الألف بمبادرة الحداد.. تأبط ذراعه، ومضيا إلى الحروف،
وكلّهما ثقة وتفاؤل بأنهما سيستطيعان بالحوار والمناقشة غرس القناعة في نفوسهم،
فتعود المياه إلى مجاريها الطبيعية.
الفلاّح النشـــيط
كان منذر يحب الزراعة كثيراً، وهي إحدى هواياته المفضّلة إلى
نفسه، والتي يمارسها يومياً بعد الانتهاء من واجباته المدرسية، حيث يقصد بستان
والده الصغير، يقلّم الأغصان، ويغرس الورود، ويقلب التربة، وينثر البذار، ويروي
المزروعات.
منذ فترة، ذهب مع والده إلى أحد المشاتل الزراعية وأحضرا كميّة
من شتلات البندورة، قاما بزراعتها وسقايتها.
قال منذر:
- أنا سأهتم بها، وأراقب نمّوها.
وكم كان سعيداً وهو يراها تكبر وترفع رأسها نحو الشمس. بعد
مدّة من الزمن، وحين شارفت الأغصان أن تعقد ثمار البندورة، بدأت الشتلات بالذبول،
فانحنت السيقان، ومالت الأوراق نحو الأرض.
حزن منذر، ونقل مشاعره إلى أبيه مستغرباً ما حصل:
- أنا لم أقصّر بالعناية أو بالسقاية.
اتجه الوالد نحو المساكب، انكبّ فوقها متفحّصاً، ثم رفع رأسه
ليقول:
- لقد عرفت السبب.
- ماهو..؟
قال منذر متلهّفاً.
- لقد نبتت إلى جانب كلّ شتلة نبتة طفيلية، التفت حول ساقها،
وغرزت فيها أشواكاً كالإبر، وأخذت تمتصّ غذاءها.. لذا فقد ذبلت الشتلات، ولم تقدر
على الإستمرار في نموّها الطبيعي.
- ما اسم هذه النباتات الطفيلية يا أبي؟.
- للطفيليات أسماء عديدة.. لكن النوع الذي يلتف حول غراس
البندورة تحديداً اسمه "الهالوك".
- وكيف نستطيع القضاء على الهالوك؟
- بتعقيم التربة، ورشها بالمبيدات المخصصة له قبل الزرع.. وقد
فاتنا أن نقوم بهذه العمليّة.
- سأستفيد من هذه التجربة، فلا أدع الطفيليات المفسدة تقضي على
إنتاجنا..
فرح الأب باندفاع ابنه نحو الأمور المفيدة، واهتمامه
بالزراعة... وتمضية وقت فراغه بهواية محببّة.. أكمل حديثه معه قائلاً:
- بماذا تشبّه هذه الأعشاب الضارة يا منذر؟.
فكر منذر قليلاً.. ابتسم مجيباً:
- إنها كرفاق السوء تماماً.. يصاحبوننا، ثم يسيئون إلينا.
- أحسنت.. وكيف نتصرف تجاههم؟
- نبتعد عنهم، ونجنب أنفسنا أذاهم.
nnn
أعذب الألحان
وكان احتفالاً عظيماً ذلك الذي أقامته المدينة بمناسبة عيد
الفرح.. وهو عيد تحتفل به المدينة كلّ عام.. تُعلي لأجله الزينات، وتشعل المصابيح،
وتلوّن أبواب المنازل ونوافذها.. ويهئُ الكبار والصغار أنفسهم للمسرّة في هذا
اليوم المشهود. فيرتدون الثياب الجديدة، ويخرجون إلى الساحات يرقصون ويغنون.
قبل الإحتفال، وقفت مجموعة الآلات الموسيقية تستعدّ للسير وسط
الشوارع، والتجوّل في الطرقات، لتقدم استعراضها الفني الجميل، ومعزوفاتها الرائعة
التي تحرّك الأحاسيس، وتزيد الحماسة.
قال الطبل:
- من الطبيعي أن أقف في المقدمة.. إن صوتي الجهوري، وضرباتي
المجلجلة، تشد الناس، وتجعلهم يأتون من كل حدب وصوب للمشاركة في هذا الاحتفال
الجماهيري.
قال الدُّف:
- وأنا.. أين سأقف؟..
أجاب الطبل:
- ستقف أنت والطبلة الصغيرة والمزهر ورائي مباشرة، فأنتم
أولادي، ولا أستطيع الإبتعاد عنكم.. أما بقيّة الآلات.
- فليرتّبوا أنفسهم كيفما يريدون.
تمشّى الكمان ببطء، ووضع نفسه خلف الطبل والدُّف والطبلة
والمزهر.. ثم تلاه العود، ذو الخطوات الرصينة.. أما الناي فقد أصبح في مؤخرة
الفرقة، ولم يكترث أحد لوجوده.
حزن الناي على نفسه حزناً شديداً.. وقال:
- "أشكو أمري للطبل عله يرأف لحالي"
- يا رئيس الفرقة الموسيقية.. أيها الطبل المبجل.. هل يرضيك أن
أقف في آخر القوم، ويقف الآخرون أَمامي.. أرجو أن تنصفني وتحكم بالعدل.
ضحك الطبل ملء شدقيه:
- بم.. بم.. بم.. كلامك غريب أيها المزمار الهزيل.. لا بدّ
أنّك نسيت نفسك، ومن تكون، حين فكرت بالمجيئ إليّ،
- لماذا...؟
سأل الناي مستغرباً.
- انظر إلى شكلك.. ألا ترى أن طولك لا يتعدى السنتيمترات.. وأن
قامتك الضعيفة لا تليق بالمقّدمات.. اذهب من هنا.. عُدْ إلى مكانك، فالأولويّة
تكون لأصحاب الأحجام الكبيرة، والأصوات القوية.. وما أنت سوى عود من القصب المثقوب
جلبوه من الحقل.
زاد حزن الناي، وانكفأ على نفسه يحدّثها بصوت شجيّ:
- صحيح أنني عود قصب.. وصحيح أن حجمي ليس كبيراً، وصوتي ليس
بقوّة الرعد.. لكنّ الإحساس الذي أبثّه في ألحاني، والرقة التي تخرج من ثقوب قامتي
تجعل أقسى القلوب ترقّ، وتفيض حناناً.
وقف الناي -كما أريد له- في آخر الصف، وانطلق مع بقيّة زملائه
يصدحون بأداء مميز، لتشكل أصواتهم انسجاماً صمّم خصيصاً لذلك الاحتفال.. لكنّه
الوحيد ضجيج الطبل كان طاغياً على بقيّة الأصوات التي تحاول إثبات حضورها
وجدارتها.. فالعود بعد أن دوزنوا أوتاره أصدر أنغاماً شرقيّة أصيلة. والكمان اتخّذ
طريقة متفرّدة في العزف لا تشبه أيّة طريقة أخرى، أمّا آلات الإيقاع فتتبّعت أباها
الطبل في كلّ حركاته وسكناته.. المجموعة كلّها كانت تؤدي أدوارها بإتقان وصدق
أكيدين، فتنجح نجاحاً باهراً.
تجمّع الناس على جانبي الطريق.. رافقوا مسيرة الفرقة
الموسيقيّة إلى كلّ مكان اتجهت إليه، وحيثما تتحرك كانت هناك عبارات من المديح
والثناء تقال:
- أحسنتَ.. بارك اللَّه فيك.
- إنَّك تستحق مكافأة على أدائكَ الرائع.
- تُرى.. من علمكَ هذا العزف الرقيق.؟!
- إنَّ صوتكَ الشجي يشفي قلب العليل.
- لقد مللنا الصخب والضجيج، ونريد أن نرتاح.
- قلوبنا لا تسعد إلا بسماع همسك.
شنّف الطبل أذنيه الكبيرتين وهو يسمع إطراء لا أبدع ولا أجمل،
وظنّه موجهاً إليه، فزاد من قوة ضرباته أكثر وأكثر... صاح:
- بم.. بم.. بم.. أنا هنا.. ووجودي يلغي وجود الباقين.
ضحك الناس منه، تغامزوا فيما بينهم.. سخروا قائلين:
- نحن لا نقصدك أنتَ أيّها الطبل الفارغ.. إن قلبكَ الأجوف،
وصوتكَ المزعج، قد جعلنا نفر منك، ونبعد عنك.
- بم.. بم.. بم.. ومن تقصدون بمديحكم إذاً؟...
سأل الطبل منزعجاً.
- إن ثناءنا كلّه موجه لذلك الذي نعتّه بالقصبة المثقّبة.
- هل تقصدون الناي؟..
سأل الطبل من جديد.
- نعم.. ومن سواه يريح أعصابنا، ويهدّئ مزاجنا، ويجعل حياتنا
تصفو.
- لكنه ضعيف، وصغير، وهزيل، و.. و.. و.. و.. لم يستطع الطبل أن
يكمل كلماته، فانفجر غيظاً.. وتمزّق.
أما الناس فكانوا جميعاً واقفين في الخلف، يصغون إلى الناي وهو
يشدو بأعذب الألحان.
nnn
لعــبة مســـلية
في إحدى ليالي الصيف المقمرة، وبينما كان القمر بدراً يسطع،
فيغمر نوره الكون... قرّر أفراد الأسرة مجتمعين السهر على سطح الدار، كما اعتادوا
أن يفعلوا في مثل هذه الليالي.
طوت خولة البساط المخصّص للجلوس فوق السطح. أخوها أحمد فعل
مثلها، وشارك في نقل الوسائد الصغيرة. الأم والأب أعدا العشاء ورتّبا أمور
المائدة.. أما الجدّة، فلم يكن بمقدورها أن تحمل سوى طبق القش الذي باشرت بجدل
عيدانه، وتنسيق ألوانه.
هرة البيت الأليفة كانت على مقربة من أفراد الأسرة تلهو بكرة
صوفية بيضاء.
حالما انتهى الجميع من تناول العشاء... قال أحمد:
- الحمد للَّه.. لقد شبعت.
- هذا غير معقول.. إنّك لا تشبع على الإطلاق.
قالت الجدّة ضاحكة.. فضحك الجميع.
اقترح الأب على والدته وزوجته وولديه أن يقوموا بلعبة مسلية.
- ماذا بوّدكم أن تلعبوا؟...
سألت الأم.
احتار الجميع.. تبادلوا النظرات... ابتسم القمر وهو يسمع
كلامهم ثم قال:
- ما رأيكم... لو راح كلّ منكم يشبّهني بشئ يحبّه، ومن يعجبني
تشبيهه سأكافئه بهديّة لطيفة..
وافق الكبار والصغار على اقتراح القمر، وكانوا جميعاً فرحين
لأنّه يحادثهم ويراهم.
صاحت خولة:
- سأبدأ أنا أوّلا..
أجابها أحمد:
- لا.. لا.. أنا أوّ لاً.
- موافقون.
هتف الجميع
قالت الجدة:
- طبق القش الملوّن الذي أصنعه، سيكبر، ويكتمل ويصبح كاستدارتك
أيّها القمر.
قال الأب:
-مقود سيارتي الذي تلامسه يداي كلّ يوم بحبّ وحنان يشبهك أيّها
القمر.
قالت الأم:
- كعكة العيد التي تصنعها أصابعي بمهارة، قريبة من شكلك أيها
القمر.
قالت خولة:
- وجه لعبتي الجميل مثل وجهك أيها القمر.
قال أحمد:
- إنَّك كالرغيف المقمّر اللذيذ.. هم.. هم.. أيّها القمر.
قفزت الهرة وماءت..
- مياو.. مياو.. ها هي كرتي الصوفيّة البيضاء أمامي، ولا تختلف
عنك أيّها القمر.
ابتسم القمر، وقد بدت على وجهه علامات الحبور والسعادة:
- لقد أعجبني كلّ ما قلتموه.. ولذا سأكافئكم جميعاً، بأن
أزوركم من وقت لآخر، لنلعب اللعبة نفسها.. ولكن ضعوا في حسبانكم، أن شكلي لن يبقى
على حاله.. وإنّما سيتغير عندما أدخل مراحل جديدة.
nnn
الدجاجة الشجاعة
جاءت الدجاجة إلى جارها الديك باكية، شاكية، تخبره بأنّ الحدأة
تستغلّ ضعفها كدجاجة وحيدة لاعون لها، وتنقضّ على صيصانها الصغيرة، مختطفة صوصاً
كلّ يوم.
انزعج الديك من الحال، وانتصب عرفه غضباً وهو يصيح:
- كوكو.. كوكو.. سآتيكِ غداً في الموعد الذي تُقبل فيه الحدأه
لتخطف صوصك.
- وماذا ستفعل؟
- سأوقفها عند حدّها، وأضع نهاية لأعمالها العدوانيّة..
لاتخافي.
ارتاحت الدجاجة لكلام الديك، ولموقفه الإنساني الجميل، وانصرفت
تُؤمّل نفسها بالخلاص من الظلم الواقع عليها.
في اليوم التالي.. انتظرت الدجاجة قدوم الديك، لكنّه لم يأتِ
بسبب مرض مفاجئ ألمَّ به، فوجدت نفسها وحيدة من جديد في مواجهة الحدأة التي انقضّت
على الصيصان لتخطف واحداً منها.
في هذه الأثناء، قرّرت الدجاجة الدفاع عن صغارها بنفسها دون
معونة من أحد.. وبعد كرّ وفرّ، وبعد عراك دام وقتاً طويلاً، استطاعت الدجاجة أن
تفقأ عيني الحدأة، وتحرمها من نور عينيها، لكنّها في الوقت نفسه سقطت ميّتةً، ونجا
الصغار.
أضمومة ورد
بينما كان المعلّم العجوز الذي أُحيل إلى التقاعد منذ سنين
طويلة جالساً وحيداً حزيناً يفكّر في رحلة العمر التي قضاها في سلك التعليم، حيث
أعطى خلالها جهده وشبابه ونور عينه لتنشئة الأجيال وتعليمهم، طُرق بابُ داره...
هتف من الداخل بصوت ضعيف:
- من؟
- نحن أستاذ.
فتح الباب، وإذا به وجهاً لوجه أمام عدد من الرجال يلقون
التحية واحداً واحداً.
قال:
- من أنتم؟.. تفضّلوا
أجاب أحدهم:
- نحن جماعة من تلاميذك القدامى، تذكرناك في هذا اليوم
"يوم المعلم العربي"، وجئنا نتفقّد أحوالك، لما لك علينا من فضل كبير.
ابتسم العجوز. رحّب بضيوفه، بينما دمعتان سخيّتان تترقرقان في
عينيه.
عرّف الرجالُ بأنفسهم ومهنهم الحالية..
قال الأول:
- أنا محمّد... أعمل طبيب أسنان.
قال الثاني:
- أنا توفيق... أعمل مهندساً
قال الثالث:
- أنا جميل... أعمل تاجراً.
قال الرابع:
- أنا سعيد... أعمل موظّفاً في إحدى الشركات.
انفرجت أسارير المعلّم، وأحسّ أن الدنيا تضحك له من جديد، لأن
ما قدّمه لم يضع سدى.
أخذ من بين يدي تلاميذه أضمومة الورد التي أحضروها، فرأى الفل
والقرنفل والياسمين والزنابق، كأنّها تغني وتقول:
"كل عام وأنت بخير يا مربيّ الأجيال".
رنده تصبح كاتبة
رنده طفلة ذكيّة مهذّبة وشاطرة.. كلّ يوم وحين تعود من مدرستها
ظهراً، تساعد أمّها في أعمال المنزل، وتحضّر دروسها، ثم تجلس للمطالعة.
موضوع التعبير الذي أعطتهم إيّاه المعلّمة البارحة كان يقول:
"اكتب موضوعاً إنشائيّاً تتحدّث
فيه عما تريد أن تصبح في المستقبل".
كتبت رنده أشياء جميلة في هذا المجال.. قالت إنّها تحبّ أن
تغدو كاتبة مهمّة، معروفة.
قرأت رنده موضوعها أمام زميلاتها وزملائها في الصف.
أُعجبت المعلّمة بأسلوبها الجميل، وعباراتها الرشيقة، وإلقائها
الجيد... قالت لها:
- أُهنئك على هذا يا رنده، وأتمنّى أن تَصِلي إلى ما تريدين.
فرحت رنده بعبارات المعلّمة وبقيت تسائل نفسها:
- ولكن كيف يتحققّ حلمي؟.
نامت رنده، وفي المنام رأت نفسها أديبة كبيرة تقف أمام حشد من
الناس، وتلقي ما كتبت، بينما الأصابع تشير إليها بإعجاب:
- انظروا... إنّها الكاتبة "رنده سالم".. هذا ما
شاهدته في الحلم.. وعندما استيقظت كانت سعيدة، وحكت لأمها كلّ شيء.
سُرّت الأم.. شجعّت ابنتها قائلة:
- لابأس عليكِ يا ابنتي.. إن الكتابة هواية رائعة... ولكن عليك
بالمطالعة المستمرة.. إقرئي كلّ ما هو مفيد وممتع، وعندما تشعرين أنّك بحاجة للتعبير
عما يجول في ذهنك، انهضي إلى دفترك، واكتبي عليه.
استمرّت رنده تقرأ في أوقات فراغها كلّ ما تختاره لها أمها من
كتب وقصص علميّة وتاريخيّة وأدبيّة، وعندما تشعر بالرغبة في التعبير عن شيء ما،
كانت تركض إلى دفترها الخاص، وتسجل فيه ما تشاء.
أسلوبها راح يتحسّن، وعباراتها الجميلة تلفت نظر المعلّمة التي
باتت تعتبرها من الأوائل.. فتخاطب التلاميذ بين الحين والحين:
- افعلوا مثل رنده.. نمّوا هواياتكم بالمثابرة والجدّ
والاهتمام.
بعد عام.. كان دفتر رنده الخاص قد مُلئ بالكتابة من أوّله إلى
آخره، فاقتنت واحداً آخر، وصارت تخطّ فوق سطوره أشعارها وقصصها وخواطرها.
زميلتها "منال" كانت تحبّها، وتطلب منها على الدوام
أن تعلّمها كيف تكتب بهذا الأسلوب الجميل... وكانت رنده تجيب:
- الأمر ليس تعلّماً فقط.. إنّه هواية قبل كلّ شيء.. فهل
هوايتك هي الكتابة؟.
- لا أنا أحبّ الرسم.
- حسناً بالجدّ والمتابعة تصبحين رسّامة ممتازة.
وأنت يا أحمد -التفت إلى زميلها- قائلة:
- ستغدو عازفاً ممتازاً لو اهتممت بعزفك على العود، ونميّت
موهبتك.. وكذلك سمير "زميلك" بإذن اللَّه سيصبح لاعب كرة مشهوراً، لأنه
يتدّرب يومياً.
كانت رندة سعيدة لأنّها سمعت نصيحة أمّها ومعلّمتها، ولأنّها
رأت نتيجة التزامها بأقوال من هم أكبر منها... فقد غدت فيما بعد من الكاتبات
الشهيرات، تنشر في الصحف والمجلاّت، ويقرأ الناس قصصها وأشعارها، ويفتخر بها أهلها
وجيرانها، وأبناء بلدها... قال لها أبوها رافعاً رأسه
- بارك اللَّه بك يا رنده.. لقد أصبحت عنصراً فعّالاً في
المجتمع.
الفأر يحلّ المشكلة
سار الخروف في المزرعة يلهو ويلعب ويتنقّل من مكان إلى مكان،
جارّاً وراءه حبله المربوط بعنقه، وبينما هو في حالته تلك، وإذا بالحبل يعلق في
جذع شجرة.
شدّ الخروف الحبل فلم يستطع الإفلات، وصار كلّما دار حول الجذع
محاولاً تخليص نفسه، قصر الحبل، وازدادت الأمور تعقيداً.. صاح الخروف مستغيثاً:
- ماع.. ماع.. أيّها
الحصان.. أيّتها البقرة.. أيّها الكلب الصديق.. تعالوا إليّ.. أنقذوني.
جاء الحصان وأمسك بالحبل، وصار يشدّ. أقبل الكلب ينبح ملبيّاً
النداء، وصار يشدّ. قدمت البقرة متثاقلة، متسائلة:
- ماذا حلّ بالخروف؟.
وعندما عرفت الخبر، بادرت إلى تقديم مساعدتها وصارت تشد.
كلّ الحيوانات القوية لم تبخل ببذل الجهد.. لكن دون فائدة.
خرج الفأر الصغير من وكره مستطلعاً الخبر.. قال:
- ما هذه الجلبة؟.
قالوا:
- إنّ الحبل المربوط إلى عنق الخروف قد لُفَّ حول جذع الشجرة،
ولم تستطع عضلاتنا القوية قطعه.
أجاب الفأر:
- أنا أحلّ المشكلة.
قهقه الجميع باستخفاف:
- ها.. ها.. ها.. أنتَ؟ ..أنتَ؟..
ابتسم الفأر، ثم قفز إلى الحبل يقرضه بأسنانه.
وبعد لحظات كان الخروف يسير برفقة الحصان والبقرة والكلب،
عائداً إلى المزرعة.
nnn
وفاء كلب
خرج قطيع الأغنام من القرية في الصباح الباكر قبل صياح الديكة.
انطلق وسط البراري الواسعة والأراضي الخضراء وراح يرعى، وهو مطمئن البال، هادئ
الطبع. فقد سمع صاحبه يقول للراعي قبل الإنطلاق:
- هذا القطيع أمانة في عنقك يا حسن.. لا تغمض عينيك عنه، ولا
تغفل عن مراقبته.
- لاتقلق يا سيدي.. فأنا سأهتم به، وأرعاه، وأحافظ عليه
محافظتي على نفسي.
أجاب حسن، ثم راح يصغي إلى تتمّة كلام الرجل:
- وأنتَ أيّها الكلب الطيب.. وصيّتي أيضاً موجّهة إليك.
هزّ الكلب رأسه بالموافقة.. لكنّ فكرة ما كانت تراوده منذ زمن،
وتلحّ عليه بالهروب، وترك العمل.. قال في نفسه:
- لقد تعبت.. تعبت جداً، وآن لي أن أرتاح، في المرعى.. كان كل
شيء حسناً وبديعاً.. السماء صافية. الماء عذب. العشب وفير، والخراف سعيدة بعد أن
أخذت كفايتها من الكلأ والماء، وبعد أن أطمأنّت على وضعها... فالراعي يهتمّ بها،
والكلب يحرسها، ولا خوف عليها أبداً.. لكنّ الكلب كان في حال غير طبيعية.. فعندما
انتصف النهار، وصارت الشمس في قبة السماء، عاد يحدّث نفسه:
- أنا نعسان.. أريد أن أنام.. لقد أتعبوني بالحراسة والسهر.
غافل الكلب الراعي، وانطلق يعدو إلى مكان فيه شجر كثيف.
- الجوّ هنا لطيف، ومناسب للقيلولة.. يا سلام!
تحت أغصان شجرة كبيرة استلقى، أغمض عينيه وراح يحلم بالأيام
القادمة التي سيغدو فيها طليقاً دون أوامر، ودون مراقبة من أحد، ودون عمل يتعبه.
ساعة. ساعتان. خمس ساعات.. الكلب لم يرجع.. قلق الراعي عليه
قلقاً كبيراً... حزن لغيابه، وأخذ يفتّش هنا وهناك.. هتف في كلّ مكان:
- أيّها الكلب.. يا صديقي، ورفيق عمري.. تعال أنا بحاجة إليك.
عندما استيقظ الكلب من نومه، كانت الشمس قد غابت، والعتمة
تغلغلت في المرعى شيئاً فشيئاً.. قال:
- عو.. عو.. لن أعود إلى الحراسة بعد اليوم، ليحضروا كلباً
سواي إن أرادوا، أو تعتمد الخراف على نفسها في الذهاب وفي الإياب.. لقد أصبحت
عجوزاً، ولا قدرة لي على العمل.
من قلب الليل.. من سكونه المخيف، خرج الذئب يتسللّ كالعادة،
يفتّش عن "دجاجة حرش" أو عن "أرنب بريّ" أو عن أيّ صيد يملأ
به معدته الخاوية.
- ماذا أرى؟... إنّه قطيع غنم بكامله! يا لسعادتي!
اقترب الذئب من القطيع كاللص. مشى بحذر وحيطة شديدين، كي
يستطلع الوضع، ويعرف كيف يتصرف.
وعندما تأكّد من عدم وجود الكلب برفقة الخراف، قهقه عالياً، ثم
انقضّ عليها بشراسة، مصدراً صوتاً أفزعها:
- سأكتفي اليوم بهذا الحمل الصغير، وسأعود غداً.
بين لحظة وأخرى كان الذئب يعدو وفي فمه الحمل، بينما الخراف
تطلق ثغاء خائفاً يملأ المكان.
نهض الكلب من رقدته.. هب ينبح:
- عو.. عو.. إنّه صوت الأغنام.. ماذا جرى؟!.. ماذا هناك؟!..
ودون أن يفكّر بما قررّه من قبل، انطلق صوب القطيع، وهو يكاد
يسابق الريح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق